المحلية

الدين السياسي _ بديل عن الدين، أم أنه دين جديد ؟ – مليسا مسعد

تنتمي الديانات المدنية والسياسية إلى ظاهرة أكثر عمومية وشمولية: “الدين العلماني” Secular Religion.

ويستخدم هذا المصطلح لوصف نظام متطور بدرجة أكبر أو أقل من المعتقدات، الأساطير الطقوس، والرموز التي تخلق هالة من القداسة حول كينونة تنتمي في الأصل إلى هذا العالم، وتحولها إلى طائفة وموضوع للعبادة والتكريس. والسياسة ليست وحدها في هذا الأمر، فأي نشاط إنساني من العلم حتى التاريخ أو من التسلية والترفيه حتى الرياضة يمكن أن يستثمر في مجال “القداسة الدنيوية أو العلمانية” Secular Sacredness، وأن يصبح موضوعا للعبادة والتقديس عند طائفة علمانية معينة، وهذا ما يدعى “دينا علمانيا”. في مجال السياسة، غالبا ما يؤخذ مصطلح “الدين العلماني” كمرادف لمفهوم الدين المدني أو الدين السياسي.

قد لا يبدو هناك أي شك حول نسب مفهوم “الدين المدني” لجان جاك روسو Jean Jacques Rousseau، الذي قدمه لتعريف دين المواطن الجديد الذي اعتبره عنصرا أساسيا من عناصر الديمقراطية. كان هذا الدين المدني متميزا ومختلفا عن المسيحية، وبطريقة ما كان معاديا لها. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تم تبني تعبير الدين العلماني بوضوح لتعريف الإيديولوجيات والنماذج التي حاولت استبدال الأديان الميتافيزيقية التقليدية بالمفاهيم الإنسانية الجديدة التي خلقت منظومة عقائدية خاصة بالإنسانية، التاريخ، الأمة، والمجتمع. من جهةٍ أخرى، تم إرجاع مفهوم “الدين العلماني” بشكلٍ عام إلى عالم الاجتماع الفرنسي رايموند آرون Raymond Aron، لتعريف المذاهب التي تعد بالخلاص للجنس البشري في هذا العالم. في الحقيقة، استخدم هذا المصطلح منذ بواكير الثلاثينات.

إذًا، كان مفهوم الدين العلماني قيد الاستخدام خلال فترة الثلاثينات كتعريف معترف به للأشكال التي خلقت فيها الأنظمة الاستبدادية طوائف وشيع سياسية. أما بالنسبة لمصطلح “الدين السياسي” Political Religion، فينسِب بشكل عام إلى الفيلسوف النمساوي إيريك فوغلين Eric Voegelin، الذي نشر كتابه الأديان السياسية The Political Religions عام 1938. هنا مرة أخرى، تم استخدام المصطلح قبل نشر كتاب فوغلين: استعمله كوندورسيه Condorcet في زمن الثورة الفرنسية. وعرف أبراهام لينكولن Abraham Lincoln تبجيل وتوقير القوانين التي وردت في الدستور وإعلان الاستقلال بأنه “الدين السياسي للدولة”. كما أطلق لويجي سيتيمبريني Luigi Settembrini على حركة “إيطاليا الشابة” Giovine Italia – الحركة الوطنية – تسمية “الدين السياسي الجديد”. واستخدمت الفاشية المصطلح بشكل واضح منذ العشرينات لتحديد وتعريف وجهة نظرها التوتاليتارية الفاشية في السياسة.

في الفترة الأكثر حداثة، ازداد الانتباه إلى الدين العلماني وأصبح موضوع دراسات جديدة كإحدى الظواهر في عالم السياسة. ركّزت تلك الدراسات بشكل أساسي على معالمها الطقسية والرمزية، وغالبا ما عزلتها عن الاعتقادات، الأساطير، والدوغما التي كانت مجرد تعبير، من أجل معالجتها بشكل مجرد أو مبدئي كأدوات سياسية نافعة في الغزو والحفاظ على القوة. اليوم يمكننا الرجوع إلى العديد من الأبحاث والدراسات التي تحتوي على أوصاف مفصلة وتحليلات مقارنة للعلامات الرئيسية للتقديسات السياسية في كل من الدول الديمقراطية والشمولية أو التوتاليتارية، بالرغم من أن تعريف الدين العلماني ما زال موضوع نقاش حاد. يتضمن الخلاف حتميا أيضا ديانات مدنية وسياسية وسماتها ومميزاتها الخاصة.

أيضا أبديت بعض الشكوك حول الوجود الفعلي لدين مدني أمريكي. ورفعت أيضا الاعتراضات في وجه مفهوم الدين العلماني، وهناك أيضا أولئك الذين يرفضون فكرة أن أية ظاهرة سياسية يمكن تعريفها كدين أو كظاهرة دينية. على سبيل المثال، هؤلاء الذين يقولون إن النظم العقائدية التي تشير إلى وجود كائن خارق ومفارق للعالم يمكن اعتبارها ديانات صحيحة وحقيقية يجادلون بأنه لا يمكن أن يكون هناك شيء يمكن تسميته بالدين العلماني. فبالنسبة لهم يبدو مصطلح “الدين العلماني” نوعا من المصطلحات التصورية التي تتكون من لفظتين متناقضتين على غرار “دائرة مربعة”. يجادل آخرون بأننا يجب أن نتجنّب استعمال مصطلح “الدين” عندما نصف حركات سياسية تتبنى أشكالا معينة من الكلمات، الطقوس، والرموز الدينية، وبأقصى الحالات الرغبة في التسليم بأن تلك الحركات يمكن تعريفها “كأديان مزيفة أو كاذبة” Pseudo-religions لأنها ببساطة ظاهرة سياسية ترتدي عباءة دينية من أجل خداع وتضليل الجماهير. ومع ذلك يدعي آخرون أن اعتبار الحركة السياسية ديانة ليس أكثر من مجرد استعمال كناية أو استعارة لفظية من نوع ما. وهذا يعني أنه لا يمكن اعتبار الحركة السياسية ديانة أصلية ودراستها من هذا المنظور. نستنتج من ذلك أن وجهات النظر هذه تقترح أن الدين العلماني – وبذلك الدين المدني أو السياسي – غير موجود ببساطة؛ فأي إنسان يقول أي شيء غير ذلك يكون قد أساء فهم الكناية أو المجاز الذي يعبر من خلاله عن هذا العالم وبذلك لم يعرف حقيقة الدين، عوضا عن ذلك يصبح ضحية وهم قاده إلى الاعتقاد “بدين الرفض”.

من الواضح أن تعريف الظاهرة الدينية يلعب دورا مضللا ضمن هذا الخلاف والجدال الدائر حول ما إذا كان هناك ما يسمى بالدين العلماني في العالم الحديث. على سبيل المثال، إذا كان تعريفك للدين مستندًا على وجود لاهوت خارق للطبيعة ومفارق للعالم، فإنك ستنكر حقيقة أن أي نظام عقائدي يمتلك كيانا دنيويا مقدسا يمكن أن يكون ظاهرة دينية. على أية حال، إذا قبلنا بهذا التعريف، فسنكون ملزمين بأن ننكر البوذية كظاهرة دينية، لأنها لا تسمح بوجود الله، بينما يمكن اعتبار الدين السياسي النازي ظاهرة دينية، لأنه لم ينكر وجود إله، بالرغم من أنه قولب ذلك الإله وفق عقيدته الخاصة. على أية حال، لا يربط جميع العلماء والباحثين الظاهرة الدينية بوجود كيان لاهوتي خارق للطبيعة. إذ لا يعتبر أن هذا الوجود لا غنى عنه من قبل علماء الاجتماع وعلماء الإنسانيات، الذين ينظرون إلى الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية، بمعنى منظومة مكونة من اعتقادات، أساطير، طقوس، ورموز تعبر عن المبادئ العامة والقيم الشائعة بين أفراد المجتمع الكلي. أساسا، هناك مجموعة ضخمة ومتنوعة من التفسيرات والتأويلات للظاهرة الدينية، والبعض منها يجعل من الممكن أن تتضمن بعض الظواهر السياسية ضمن سياق أوسع للظاهرة الدينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق