المحلية

تحوّلات ميدانية مُرتَقَبة – بتول عبدالله

قد تُشكّل معركة الزبداني، المعركة الأكثر اشتعالاً في سوريا أخيراً، تحوّلاً لافتاً في مسرح العمليات العسكرية، ومنعطَفاً يؤدّي إلى تسوياتٍ كبرى أو بداية تصنيع مخارج للحلّ.انتكاساتٌ ميدانية لحقت بالجيش السوري شمال بلاده (إدلب – جسر الشغور – أريحا – سهل الغاب) وكذلك في الجنوب (تلة الحارة – تلة الجابية – تل الجموع – نوى – بصرى الشام – اللواء 52 – معبر نصيب) إضافة الى سقوط مدينة تدمر.

«لؤلؤة الصحراء» سقطت. المدينة الأثرية التي تكمن أهميّتها في أنها تُعدّ عقدة وصل ما بين المحافظات السورية، خصوصاً بين مدن دمشق – حمص – الرقة، ما يُمكّن «داعش» من السيطرة على مطار T4 والوصول إلى بلدات صدد، مهين والبيارات، وصولاً إلى حسيا، وقطع طريق حمص – دمشق وربط الريف الشرقي بالقلمون، بالإضافة الى قطع أحد الشرايين الرئيسة لتنقل القوات السورية بين المحافظات. إلّا أنّ تلك الانتكاسات، لم تُغيّر شيئاً على المستوى الاستراتيجي.

على صعيدٍ آخر، إنّ الهدف من الهجوم الذي شنّه «جيش الفتح» شمال سوريا كان الوصول إلى تخوم اللاذقية، وربط جبل الزاوية مع جبل التركمان، ووصل جبل الأربعين بالريف الشرقي عبر بلدة ربيعة.

أما بالنسبة إلى الهجوم على سهل الغاب، فإنّه قد حمَل في طياته هدف السيطرة على بلدات (الفريكة – الزيارة – المشيك – المنصورة – قرقور – البحصة – تل واسط)، وعزل الريف الشمالي – الغربي لحماه. ليس هذا فحسب، بل كان لذاك الهجوم غاية في قطع امدادات الجيش السوري عن ريفَي إدلب واللاذقية.

على رغم تراجع الجيش السوري في بلدات ومواقع متعدّدة، غير أنّه نجح في احتواء الهجوم العام، موقفاً اندفاعة المهاجمين. وهذا يعتبر إنجازاً لا بأس به، وفشلاً ذريعاً لأصحاب الهجوم والدول الداعمة لهم.

فالاختراقات لم تتحوّل انتصارات استراتيجية، ولم تتعدَّ بعض القرى المعزولة، بل لا تزال الأفضلية للجيش السوري كونه لم يفقد القيادة والسيطرة، ولا يُبرِح مُمسِكاً بزمام الامور في المناطق الاستراتيجية المشرفة على كلّ الطرق الرئيسة. فالريف الغربي لمدينة جسر الشغور الذي يضمّ تل واسط – الزيارة – الفريكة والمشيك، ما انفكّ تحت سيطرة الجيش السوري، ما يعطي الأخير أفضليةً لشنّ هجوم مضاد.

كما يُسجَّل للجيش السوري نجاحه في التصدي لما يُسمى بـ»عاصفة الجنوب»، على رغم ضخّ الدول الداعمة لها الكثير من المساعدات اللوجستية – العسكرية، وذلك عبر غرفة العمليات الدَولية المشترَكة الشهيرة باسم «الموك»، التي تترأسها الولايات المتحدة الاميركية مع الكيان الاسرائيلي ومجموعة من الدول مثل بريطانيا وفرنسا ودول عربية أهمّها السعودية والإمارات، حيث تتواصل فيها مباشرة مع الفصائل المسلَّحة، التي تصفها بـ«المعتدلة»، من خلال غرفتي «الموك»، الموجودة في كلٍّ من تركيا، لدعم الجبهات الشمالية، والأردن، لدعم الجبهات الجنوبية.
أثمَر ذلك النجاح عن إعادة تمركز قوات الجيش السوري في مطار الثعلة العسكري وبلدة حضر، وهما يشكّلان نقاط ارتكاز صلبة.

والجدير بالذكر، أنّ «عاصفة الجنوب» تزامنت مع «عاصفة الحزم» التي شنّتها السعودية على اليمن، الأمر الذي عزاه مراقبون الى مخطَّط اميركي
– اسرائيلي – اقليمي لضرب محور المقاومة في المنطقة، إذ كان الهدف من «عاصفة الجنوب» هزيمة الدولة السورية وحلفائها في درعا، وبالتالي تمهيد الطريق أمام حصار مطبق على دمشق، وهو ما لا يبدو أنّ أحداً مستعدٌّ له حتى الآن، لا سيما في ظلّ العجز السوري والإقليمي والدولي عن إنتاج بديل.

بدورها، توخّت السعودية وحلفاؤها ضرب حركة «أنصار الله» في اليمن من جهة، ومحاولة عرقلة توقيع الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية من جهة أخرى. لكنّ تلك الأحلام سرعان ما تبدّدت فجر ليلة من ليالي القدر «النووية»، وفي ظلّ الإنجازات التي يسطّرها الجيش اليمني واللجان الشعبية ميدانياً.

وفي السياق، يستمرّ الجيش السوري في تنظيف بؤر الارهاب والجيوب المتداخلة مع العاصمة دمشق، والمنتشرة على الحدود اللبنانية – السورية. وكانت المجموعات المسلَّحة تعمل على ربط كلّ البلدات الممتدة من حرمون حتى الزبداني، وصولاً الى الغوطة الشرقية ومروراً ببيت جن. وما زال الجيش السوري يقوم بالمناوشات وتبادل الهجمات في حلب والحسكة ودير الزور مع أرجحيّة له.

إنّ حسم معركة الزبداني لصالح الجيش السوري والمقاومة اللبنانية يشكّل هزيمة نكراء للجماعات الارهابية، وانهياراً لمشروع إسقاط دمشق، حيث كانت تركيا وقطر والسعودية تعمل على تسريع العمليات العسكرية للإفادة من الوقت المُتاح، والمُستقطع، وذلك قبل الوصول الى تسوية في ما يخصّ الاتفاق النووي.

بالتزامن مع توقيع الاتفاق النووي، دخلت تلك الدول في أتون الحرب. السعودية تورّطت في حرب استنزاف طويلة في اليمن، وتركيا دخلت في مواجهة دامية مع الاكراد، أيْ حزب العمال الكردستاني تحديداً. ناهيك عن الحرب المحتمَلة مع «داعش».

هنا، يقف «السلطان العثماني» حائراً أمام أمرين، أحلاهما مرّ، إما أن تكون بلاده راعية للإرهاب وبالتالي ستقف وحدها في صف «حاضن الارهاب» الذي انسحب منه الغرب تدريجاً، وذلك بعدما صفعه الارهاب في عقر داره. وإما عليها أن تكافح هذا الورم السرطاني بعدما احتضنته وسمحت بتدفّق آلاف المسلَّحين الى سوريا عبر حدودها.

وبرزت أخيراً محاولات واشنطن جرّ أنقرة إلى الانخراط في التحالف الدولي لضرب «داعش» بقيادة بلاد العم سام. من هنا، تكمن أهمية احتواء هجمات المسلَّحين طيلة الأشهر المنصرمة، واعتماد الدفاع وسيلة لإطالة المواجهات كون الهجوم التركي – القطري – السعودي كان محكوماً بالوقت وفي مهلة زمنية معيَّنة.

لا شك في أنّ الاتفاق النووي فَرَض وقائع جديدة، إضافةً إلى تمدّد «داعش» في المنطقة. وهذا من شأنه أن يفرض تحالفاتٍ جديدة، أو أقلّه شقّ الطريق لطرح العديد من المبادرات، ومحاولة إنضاج حلول، خصوصاً أنّ تركيا، كما ذكرنا آنفاً، أضحت أمام خيارين: إما داعمة للإرهاب وإما في مواجهته.

لا يخفى على أحد أنّ الاتفاق النووي عزّز من وزن «بلاد فارس» وثقلها الاستراتيجي. وقد لمسنا انفتاحاً غربياً تجلّى بتكثيف زيارات المسؤولين الغربيين إلى إيران، ليس آخرها وصول وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند إلى طهران وإعادة فتح سفارة بلاده هناك بعد سنوات عجاف. وقد لوحظ حجّ العديد من الشركات الأوروبية إلى السوق الإيرانية في الآونة الأخيرة.

مع قرب الانتهاء من العمليات العسكرية في الزبداني، شنَّ الطيران الاسرائيلي سلسلة غارات على درعا، واستهدف خان أرنبة، وقرية الكوم في القنيطرة، خشية انتقال القوات التي حرّرت الزبداني إلى درعا لاستعادتها. وهذا بدوره سيُعيد خلط الأوراق مجدَّداً، ويكسر التوازن.

وممّا لا ريب فيه أنّه سيعطي أرجحية للدولة السورية في الميدان، فالقوات المشترَكة من المقاومة اللبنانية والجيش السوري الموجودة في الزبداني تُقدَّر بنحو عشرة آلاف مقاتل. وقوتهما مؤلفة من اللواءين 105 و104، اللذين يضمّان قوات الحرس الجمهوري وقوات النخبة في «حزب الله».

وقد نجحا في بلورة أسلوب قتالي غير مسبوق، يتماهى وطبيعة المواجهات القائمة على الأراضي السورية، ألا وهو الدمج بين أسلوب «حرب العصابات» وأسلوب الجيش النظامي – الكلاسيكي. ومن الطبيعي أن يُعمَّم هذا النموذج على بقية الجبهات، وخصوصاً درعا.

من جهتها، «اسرائيل» قلقة من وجود المقاومة على تماس معها، لأنه يشكل تهديداً مباشراً لها، خصوصاً أنّ جبهة الجولان باتت جبهة أخرى لمسرح عمليات المقاومة التي ستضاعف قواتها وعملياتها في جبهة حوران بعد إحكام قبضتها على الزبداني. إذ لم يبقَ إلّا نحو 600 متر للسيطرة على كامل المدينة.

الشعب السوري ما عاد يعوّل على اللعبة السياسية وما يجرى خلف الكواليس… فالكلمة الأخيرة للميدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق