حين كسّر أبي أغلال زنزانتي في الخيام – زينب حسن

أذكر نفسي في زاوية الزنزانة وعيني على خيوط النور المتسرّبة الى أنحاء الغرفة من بين ثلاثة قضبانٍ موجودةٍ على شباكٍ صغيرٍ أعلى الحائط، علّها تحمل لي صورة ابنتي التي أبعدوني عنها.. لم يكن لي رفيقٌ سوى شريط الذاكرة..
أذكر نفسي وهمس ابنتي لا ينفكّ عن التردد على مسامعي، لم يكن يقطعه سوى طرق الباب الحديدي وصراخ السجّانات ومن ثم اقتيادي مكبّلةً الى غرفة التحقيق وسؤالي عن شباب الضيعة.. ولما كانت إجابتي لا تتغيّر.. كنت آخذ “ما فيه النصيب” من الضرب والشتم والتعذيب، وأعود الى الغرفة إمّا فاقدة للوعي أو مضرّجة بالدماء.. كانت قبعة صغيرتي أول ما أحمل.. فأتنفس رائحتها لأحيا..
كنت أرسم في مخيلتي صورةً جديدةً لها، وأسأل نفسي: كم طول شعرها الآن؟ أتراها تشبهني أم تشبه والدها؟ ماذا تراها تعرف عني؟ ولكن.. هبوط الدمعة أمامي على الأرض كان يمحي الصورة ويعيدني لما أنا عليه.. كنتُ أشعر بالموت وأنا على قيد الحياة..
وفي ذلك اليوم، وكما جرت العادة، قطع همس ابنتي طرق بابٍ وصراخ.. ولكنّه في هذه المرة كان صراخًا من نوعٍ آخر.. صراخٌ سرى في أوردتي.. شحنني بقوّةٍ جعلتني بقرب الباب في ظرف لحظات.. سمعتُ صوت أبي.. رأيتُ يده تمتد إليّ من فتحة الطعام.. أمسكتُ بها.. رحت أتحسّس خشونتها بوجهي لأعلم أنّي لستُ أحلم ولا أتخيل.. لم اكن أعلم ما يجري.. كنتُ أسمع فقط صيحات التكبير..
انتظرنا ليحضر بعض الشبان ويقطعوا الأقفال.. كانت دقائق الانتظار تلك أطول من العام الذي قضيته في معتقل الخيام.. سقط الكلام أمام وقْع المشهد.. فُتح الباب.. ضمّني والدي إليه، وهمس في أذني بعض كلماتٍ لم أفهم منها سوى “تحرّرنا”.. خرجنا معًا الى باحة المعتقل.. خرجتُ الى النور من جديد.. وكانت قد حضرت عائلتي وابنتي..
لم يكن هناك لغة أبلغ من لغة الدموع..
وطال عناقنا..
وبعناقي لهم..
كنت أعانق ممتنّةً شعلة الضوء التي دفعتهم إليّ وأخرجتني من ظلمتي..
شعلة الضّوء وليدة دماء الشهداء وآهات الجرحى.. وليدة البذل والعطاء..
شعلة الضوء تلك.. هي المقاومة..
فصار بين الظلمة والنور.. مقاومة!