نافذة على التكفير والتفكير ومسألة التخلف – د. أسامة سمعان

عدّ الجغرافيون السياسيون الثروة مقياساً للتقدم والتخلف، عبر تقسيمهم العالم إلى قسمين: القسم الشمالي الذي يشمل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، البالغة مساحته ربع العالم، ويملك ثلاثة أرباع الثروة العالمية، وعدّوه متقدما، والقسم الجنوبي الذي تبلغ مساحته ثلاثة أرباع العالم، ولكنه يملك ربع الثروة العالمية، وعدّوه متخلفاً.
والواقع، أن استخدام الثروة مقياساً وحيداً للتخلف والتقدم فيه الكثير من الغبن للحقيقة، إذ أن معدل دخل الفرد في دولة قطر بلغ 98.814 دولاراً ( حسب إحصاءات البنك الدولي 2013 ) ، فيما بلغ معدل دخل الفرد في الولايات المتحدة الأميركية53.101 دولاراً، وبذلك احتلت أميركا المرتبة الخامسة في العالم، فيما احتلت قطر المرتبة الأولى، ولذلك يعتمد الباحثون مؤشرات عديدة لتحديد مستوى التقدم والتخلف. .
معيار التقدم والتخلف.
تبدو أبرز المؤشرات المعتمدة لتحديد مستوى التخلف والتقدم تلك التي تندرج تحت عناوين متعددة منها: مستوى البطالة، حيث يبلغ في العالم العربي، في حده الأدنى نسبة 30% عام 2010، الذي ارتفع إلى 54% في العام 2012 ( حسب تقرير اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لدول غرب آسيا). ثم نسبة الأمية التي تبلغ في العالم العربي 30% حتى عام 2009، بالإضافة إلى 5% لا زالوا يعيشون حالة البداوة، فيما نسبة الأمية في أوروبا 3% وفي أميركا صفر%.
ولعل مؤشر الميزان التجاري، لاسيما قيمة الصادرات والواردات الغذائية، هو من أهم المؤشرات، كونه يتعلق بالأمن الغذائي للشعوب، وهو يدل على قيمة الصادرات الغذائية العربية التي بلغت عام 2012، ما مقداره 19.492 مليار دولار، مقابل الواردات التي بلغت 76.700 مليار دولار، أي أن العجز في الميزان التجاري الغذائي يبلغ 57.208 مليار دولار، وهذا يعني أن العرب لا ينتجون قوتهم وهم في خطر غذائي. يتلوه مؤشر المديونية، الذي يظهر عشر دول عربية مهددة بالإفلاس هي: لبنان، ومصر، والسودان، وموريتانيا، والأردن، والمغرب، واليمن، وتونس، والعراق، والبحرين، حيت يقترب الدين إلى مرحلة الخطر ببلوغه 30% من الناتج المحلي القومي.
يبدو التخلف العربي بيناً ولا يختلف عليه عاقلان، فلا خلاف على واقع التخلف، إنما الخلاف على أسبابه.
فمن قائل أن سبب التخلف بدأ مع استبعاد الإمام علي(ع) عن سدة الخلافة، إلى آخر يعد أسباب معركة كربلاء ونتائجها المفجعة كانت الانعطافة الأساسية باتجاه التخلف العربي والإسلامي، إلى آخر يتهم أهل البدع الدينية، وغيرهم من الذين يعدون خلافات أقارب النبي محمد(ص) وتقسيمهم دولة الخلافة فيما بينهم إلى ثلاثة دول: واحدة عباسية عاصمتها بغداد، وأخرى فاطمية عاصمتها القاهرة، وثالثة أموية عاصمتها قرطبة، هو السبب الرئيس في التخلف.
كل هذه الآراء ربما تقع في باب المقدمات للسبب الرئيس الأهم، حيث يمكن للباحث المؤرخ أن يتبين النتائج التي عبّرت عن بداية الانهيار، عندما تعرض العالم العربي للغزو الصليبي، ثم الغزو المغولي، ثم انفلات زمام السلطة من العرب إلى الأعاجم من سلجوقي ومملوكي وعثماني، وصولاً إلى الاستعمار الغربي، ونشوء دولة “إسرائيل” بمهمة وظيفية تتعلق بمنع النهوض في العالم العربي.
السبب الرئيس لتخلف العرب والمسلمين.
ابتلى المسلمون في القرن الثامن ميلادي بجدل فقهي حول طبيعة القرآن، هل هو قديم قدم الله، أم هو مخلوق محدث. فقال فريق منهم على رأسهم الإمام احمد بن حنبل(780-855 م) “القرآن كلام الله، تكلم به، ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل بأنه ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي مثلهم، ( مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، ص 468 ).
رد عليهم المعتزلة: “بان القول بقدم القرآن ينافي عقيدة التوحيد التي تشكل ركنا أساسيا من أصول الدين الإسلامي، وعدوا الذين قالوا بان القرآن مخلوق هم المنقصون من التوحيد. (العقل والحرية، دراسة في فكر القاضي عبد الجبار المعتزلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 1980).
ولعل أهم ما ارتكز إليه المعتزلة وشكل رداً صاعقاُ، هو الاستناد إلى النص القرآني نفسه الوارد في آيات عديدة أبرزها قوله تعالى: “ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث”(سورة الأنبياء، آية 2)، وقوله وما يأتيهم من ذكر الرحمن مُحدث” (سورة الشعراء، آية 5)، فشكلت ردود المعتزلة قناعة بسلامة رأيهم ففرضها الخليفة العباسي المأمون خلال فترة حكمه ( 813-833م ) إيماناً للدولة وأعضائها المسلمين.
وعندما تولى المعتصم بالله (833-842م) مقاليد الخلافة، استعان بقادة الجنود الأتراك ونقلهم معه إلى سامراء وقد جعلها عاصمة الخلافة، مستبعداً العناصر العربية عن قيادة الجيش اعتقاداً منه بتحييد الدولة عن الصراع على السلطة، وما أن وصل الخليفة المتوكل إ(842-861م) إلى سدة الخلافة وسط تعاظم نفوذ القادة الأتراك حتى ضعفت هيبته وانقلب على مذهب الدولة في خلق القرآن تحقيقا لرغبة الجنود من غير العرب، الذين انقلبوا عليه وقتلوه طعناً بالخناجر، ليفرضوا المستنصر أحد أبنائه خليفة، بدلاً من ولى العهد الشرعي المعتز بالله، وبمقتل المتوكل طويت صفحة العصر الذهبي للحكم العباسي، ليبدأ عصر الانحدار نحو التفكك والزوال.
في ظل هذا المنحى التراجعي نحو الأسفل، برز أبو الحسن الأشعري (874-936م) مرتداً عن الاعتزال باتجاه الحنبلة، القائلة بقدم القرآن، فلاقى قبولاً واسعاً من الناس، متناغماً مع المناخ الفكري السياسي للدولة الذي فرض في عهد المتوكل.
في ظل هذه الأوضاع برز بنو بويه في خرسان، واتجهوا نحو العراق، فاستبدلهم الخليفة المستكفي (944-946) بالأتراك، وعندما تعاظم نفوذهم الذي استمر بين 945-1055م، استنجد الخليفة القادر (947-1031م) بمحمود بن سبكتكين الغزوني، الذي هدد بقتل “الرافضة” والإسماعيلية، والقرامطة ، والمشبهة، والمعتزلة وسبهم على المنابر.
بعد هذا الانتصار الأشعري الساحق على القائلين بخلق القرآن، اصدر الخليفة القادر، عام 1017م ، الوثيقة المعروفة باسم “الوثيقة القادرية” التي عدت كل من يقول بأن القرآن مخلوق هو كافر حلال الدم.
شكلت هذه الوثيقة أول إعلان رسمي بتكفير المسلم، واكبر عملية إرهاب فكري عرفه التاريخ الإسلامي، استمر حوالي ألف عام، لاسيما وأنها ترافقت مع الكثير من الفتاوى التي حرّمت التفكير.(تقي الدين النبهاني، التفكير، منشورات حزب التحرير الإسلامي، ط1، د.م.، 1973).
أدت فتاوى التحريم قتل الفلاسفة والمثقفين: السهروردي الشهيد 1191م، الجزيني الشهيد 1384، الجباعي الشهيد 1435، الكواكبي الشهيد 1902، ناهيك عن قافلة الشهداء التي أعدمها جمال باشا السفاح،شنقاً حتى الموت، في ساحتي المرجة في دمشق والبرج في بيروت خلال عامي 1915-1916م.
وفي سياق متصل بتحريم التفكير، حرّم شيخ الإسلام العثماني المطبعة فترة دامت 200 عام 1500- ولغاية 1700م، عندما لم تعد رجس من عمل الشيطان، فتأسست أول مطبعة في الآستانة عام 1713.(محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العثمانية العلية، دار النفائس،ط6، بيروت 1988)
لم يكتف المفتون بالتحريم والقتل بالسيف بل اعتمدوا صيغة فكرية لبعض الموضوعات الدينية أبرزها: الإلوهية، القضاء والقدر، الأجل، الرزق، الهدى والضلال، والنصر، والجزاء، بطريقة قادرة على تعطيل العقل عن التفكير. (راجع بهذا الشأن، أمين نايف دياب، جدال الأفكار، عمان ، 1995).
منذ صدور تحريم التفكير، لم يصدر أية وثيقة من مرجع ديني رسمي تبطل مفاعيله، إلا عندما صدرت وثيقة الأزهر الشريف للحريات، التي أذاعها الشيخ أحمد الطيب، في كانون الثاني عام 2012، وهي لم تنص صراحة على إلغاء فتوى تحريم التفكير، ولكنها في مضمونها، ألغت التكفير أولاً، باعترافها بحرية الاعتقاد، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وألغت تحريم التفكير ثانيا، باعترافها بحرية التعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الفني. وهكذا يكون بين الوثيقة القادرية التكفيرية، ووثيقة الأزهر التفكيرية، قد انقضى حوالي ألف عام ، عاش فيها المسلم بلا عقل، فانحدر إلى مرحلة التوحش التي تعبر عن نفسها باساليب القتل التي تمارسها العصابات التكفيرية اليوم على مدى الساحتين الإسلامية والعالمية.
هنيئا للمسلمين العرب وغير العرب بوثيقة الأزهر للحريات لعلها تعيد لهم عقولهم، على أمل النهوض ببلدانهم ليكونوا في مصاف الشعوب المتقدمة وفق كل المعايير.